وجاءت سكرة الموت.. جاء الحق..وهل نخاف أكبر ما نخاف غير الموت.. وإن تناسيناه..وحتى لو تشاغلت ذاكرتنا ونفوسنا بغيره.. لنا أن نسلك طرقا تتجانف قدرنا.. وتوحي لنا أننا نختار ما نريد أن نختار، وأن يدا غير يد القدر تتحمل عبء تقسيم الحظوظ، وتخطط للمصائر، وتعي ، تتساءل ، تفكر وتقرر
..غير أن لحظة أخيرة رسمت بدقة وعناية لا عهد لكائن حي بهما.. هي وحدها لحظة الوقوف التي لا تستقدم ولا تستأخر..لا تحابي من نحب..ولا يزعها سلطان من نخشاه..ولا تخرج عن الكتاب المؤجل.. لحظة كل ما بعدها لا يشبه ما قبلها.. وكل ما نعرف عنها أنها تفتح لنا باب اللقاء مع من بيده الحظوظ والآفاق..
1
محفز لمخيلة جيل
بالأمس كانت مريم..السيدة مريم..سيدة الرموز التي اقترن اسمها بالخوارق.. وبالكلمة الإلهية..ولأنها حملة اسم العذراء الطاهرة..كانت صورتها في مخيلة كل أجيال الجلفة..حافزا للألوان..حملت أشكالها وملامحها على كفها ، وقدمت نفسها لمدينتها الكبيرة..فكانت في يوم قربانا.. وفي يوم بشارة ..ثم اقترن اسمها بابن عالم المدينة، فكانت الولود الودود..وكانت في تشريفات الزمان الجميل الأم التي ترعى ..بعد أن كانت الأنثى التي يمشي سحرها بين يديها.. فلم تخل مخيلة من بديع رسمها، ولا يمكن لشوارع الجلفة القديمة وساحاتها التي تمسح قلوب أبنائها الغرباء أن تفقد ذكرها وذكراها التي ترف بين حفيف أشجارها ونشوة ظلالها المنعشة في أمسيات الصيف الراحلة..
2
امرأة كألف .. امرأة للتحدي
الذين شهدوا مجالس جبهة التحرير وجمعيات أبنائها يذكرون لحظات ليست كاللحظات .. فيها يعرف الرجال من أشباه الرجال و اللارجال، وعندما كان يحيص الحيص كانت السيدة تستل سيفا ترسم به لبعض هؤلاء وأولئك النموذج لـ : كيف تكون مواقف الرجال، وما الذي يصح أن يقال عنه مواقف رجولة. لقد كانت امرأة وكانت تتقد جرأة، وفي اللحظات أين تغلب الحسابات على الرجولة وطبعها، وتورق فلسفة القوة من بين الأنامل الناعمة كان الذين في قلوبهم شيء من الخوف يقولون : " مريم راجل " لكنها كانت فحولة المرأة التي تعيش بوجه واحد ، وبقلب واحد، ولا تقتات إلا على نبض موقف واحد.
3
عندما يتخاذل الرجال
لقد شهد الأحياء ، وفي شهادتهم عبرة أن السيدة مريم كانت مربية ناجحة، ثم أما ناجحة، وعندما اختارت أن تمثل نموذج المرأة، لم تتردد، ولم تتلعثم، ولم تتعثر بأحجار الطريق الذي لم يكن دوما معبدا، أو مفروشا لها بالورد، فكما تجرعت مره، صبرت على أذاه، لكنها استطاعت، ولأنها استطاعت فقد فعلت، ولأنها حققت الفعل، فقد زرعت حواليها أينع الثمار وأجمل حبات القلوب ، ولم يكن الصدق منها ليقابل بأقل من محبة القريب واحترام البعيد..فطوبى لمريم ..التي استوطنت بيت العلم والشرف والزهد، وانتبذت منه جوار الحروف ..فملكت المشاعر، وسحرت الناس ..
4
الجبهة ولا شيء غير الجبهة
في عام 97 عندما أنشئ لجبهة التحرير من رحمها ضرة، وانهالت ألسنة السوء من بعض من ادعوا الانتماء إليها عليها، وفر كل منهم بجزء من تنظيم ليخطب به ود السلطة يومئذ اختارت مريم التاريخ، وسجلت لنفسها موقفا يبقى في رصيد كل من اختار رص صف الوفاء، نجما يلمع حاملا اسمها، ببريق أصيل لا يزول عندما تعود كل الألوان والصور إلى حقيقتها الأولى، وينجلي معدنها الأصيل. يومها كان بوسع السيدة مريم أن تسير مع الركب متذرعة بالوطنية، أو المحافظة على هيبة الدولة... لكنها أخذت الإيعاز..ونادت على من لبوا النداء.. وحافظت على وحدة المناضلين..وعلى رمزية الجبهة وقدسية نظامها..ولم تخف ، ولم تهن، ولم تضعف.. بل تركت ذلك لغيرها وواصلت المسيرة..
5
القدر ضد الحظ
في آخر المعارك..وعندما لاح في الأفق.. قبس من حظ، علا بين الأصوات المخترقة جدار التاريخ صوت لا يخطئ هدفه أبدا.. صوت يأتي من اللانهاية .. لا يغلبه غالب..ولا تنفك من إساره عقدة .. صوت له سطوة.. وقوة ليست بعدها قوة..قوة لها علاقة بالعناية الإلهية .. اختارت السيدة مريم دائما أن تتحدى وتتقدم.. وتكون حيث يكون التحدي .. وعندما بدا أن الحظ في نيته أن يبتسم ويقول قولا حسنا تكلم القدر ..وقال وليس بعد قوله قول..
6
صلاة
اللهم إن هذه مريم ..أمتك وابنة أمتك..ناصيتها بيدك ..ماض فيها حكمك.. عدل فيها قضاؤك..اللهم إن كانت محسنة ونحسبها من أهل الخير ولا نزكي عليك أحدا..فأحسن مدخلها واجعل الجنة منزلها ومأواها، وإن كانت مسيئة فرحمتك أوسع وأعلى ..وعفوك أسمى وأجل.. اللهم لا تحرمنا أجرها ..ولا تفتنا بعدها ..آمين..يا ربنا .. يارب العالمين.
منقول